المادة    
يطلق الناس عَلَى بعض العلماء -في الغرب- أنهم مؤمنون، لأنهم يؤمنون بوجود الله، وأن الذي خلق هذا الكون ويدبره هو الله، والذي يؤمن بوجود الله من علماء الطبيعة والفيزياء والكيمياء، فليس بمؤمن في الشرع؛ لأنه لا فرق بينه وبين كفار قريش، كما قال الله تَعَالَى عنهم: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25].
فهم مؤمنون بأن الله هو الخالق وكانوا يدعونه، بل كانوا يصرفون أنواعاً من العبادات له سبحانه، لكن يشركون فيها معه غيره، إذاً فكفار قريش أكثر إيماناً من هَؤُلاءِ، لأن هَؤُلاءِ لا يتعبدون لله تَعَالَى بشيء، ولا يؤمنون بدين الإسلام ولا بنبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يؤمنون بالقرآن، ولا يقدمون لله تَعَالَى أي نوع من أنواع العبودية، إلا أنهم يقولون: إن الله موجود وهو الذي خلق ورزق وهو الذي يدبر الكون، وهَؤُلاءِ ليسوا بمؤمنين، وإنما هم كفار، ولكن نقول: هَؤُلاءِ الكفار يقرون بالربوبية، هذا غاية ما في الأمر.
  1. حقيقة العبودية

    إن التوحيد الذي أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من أجله الكتب، وأرسل من أجله الرسل، هو توحيد الألوهية، ليس توحيد الله في أفعاله، كما هو الحال في توحيد الربوبية، بل هو توحيد الله في أفعال العباد، بأن يعبده الخلق وحده لا شريك له، وأن ينقادوا لأمره، ولا يعترضوا عَلَى حكمه القدري أو حكمه الشرعي، بل يكونون عبيداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والتقرب إِلَى الله بما شرع، هذه حقيقة العبودية كما قال تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] فلا بد من تحقيق ذلك، لكي يكون العبد مؤمناً، وإلا فإنه مشرك.
    فَيَقُولُ: إذا علم ذلك وتفكر في حال النطفة وفي خلقه وفي طعامه كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)) [عبس:24] إذا تأمل في هذا الكون فإنه يقر حينئذ بتوحيد الربوبية، وإذا فعل ذلك انتقل منه إِلَى توحيد الألوهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ سُبْحانَ اللَّه! يخلقك ويرزقك ويحييك ويميتك ويعطيك وينعم عليك، ثُمَّ تعبد غيره ((قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ))[عبس:17] ((وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)) [الكهف:54].
    ولهذا روي في بعض الآثار القدسية {إني والجن والإنس لفي أمر عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إِلَى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي}، وهذا من العجب ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ))[يونس:18].
    يعبدون الأبقار في الهند قرابة 800 مليون، وفي الصين أكثر من 1000 مليون، يعبدون تماثيل بوذا -سُبْحانَ اللَّه- وفي الدول الأخرى يعبد الصليب ويعبد عيسى وتعبد مريم، كيف يعبدون غير الله؟! {أخلق ويعبد غيري} وعبدوا النَّار الكواكب، حتى يقال: إنه يوجد في الهند، من يعبد النمل! إن الإِنسَان إذا لم يعبد الله فإنه يتيه ويضل، يوقد النَّار ويعبدها، يصنع الصنم من التمر كما كَانَ العرب في الجاهلية ويعبدونه، ويصنع الحجر ويعبده، فإذا أراد أن يطبخ جَاءَ بحجرين وهذا الثالث وطبخ فوقه، أهذا إله؟ أين عقلك أيها الإِنسَان؟ والعجب أنهم يقولون: إن الله هو الخالق.
    فإذاً يخلق ويعبدون غيره، هذا من العجب العجاب، ويرزق ويشكرون سواه، انظروا إِلَى حال النَّاس اليوم، إن حصل أحدهم عَلَى رزق، كم من النَّاس يرد الفضل والشكر لله وحده، وكم منهم من النَّاس من يقول: ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي))[القصص:78]، ويقول: ((هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))[فصلت:50].
  2. الاعتماد على الأسباب ينافي حقيقة العبودية

    قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا عَلَى أن ينفعوك، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك}.
    فالله تَعَالَى هو الذي كتب الخير والشر، فهذه الأرزاق من الله عَزَّ وَجَلَّ، وهَؤُلاءِ البشر يسخرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نعم يُثنى عَلَى النَّاس ويشكرون ويكافئون ولو بالدعاء، وهذا من حسن أخلاق المسلم أنه يكافئ ويحسن إِلَى من أحسن إليه ولو بالدعاء إذا عجز، لكن أن ينسب كل خير ونعمة وفضل إِلَى الأسباب وينسى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهذه غفلة كبيرة عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو علم أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الخالق والرازق لعبده وحده كما أشار المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا كما قال الله تعالى: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ))[إبراهيم:34],.
    هذا هو الوصف الذي وصفه الله رَبّ الْعَالَمِينَ، هذا الإِنسَان ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ))[النحل:53] فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هو الذي يخلق، ولكن يعبد سواه، ويرزق، ولكن يعبد غيره، خيره نازل إِلَى العباد، فكم ينزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كل يوم من الخيرات عَلَى هَؤُلاءِ العباد، فكم من فقير أغناه الله تعالى، وكم من مريض عافاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكم من مكروب فرج الله تَعَالَى كربه، وكم من مهموم أزال الله همه؟
    كم وكم يتحنن عَلَى هَؤُلاءِ العباد ويرحمهم ويمتنُّ عليهم كل يوم، بل كل حين، بل كل لحظة ونِعَم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نازلة عَلَى هَؤُلاءِ العباد، ولكن ما الذي يصعد إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالملائكة الذين يتعاقبون فينا في الليل والنهار، ما الذي يصعدون به، دعونا من عالم الكفر، فماذا تتوقعون أن تصعد الملائكة به من عالم الكفر، انظروا إِلَى عالم الْمُسْلِمِينَ ودعونا من عالم الْمُسْلِمِينَ عامة، انظروا إِلَى حالتنا نَحْنُ طلبة العلم الذين نعيش -ولله الحمد- في الغالب مع كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع أهل الذكر، ومع أهل الخير، بم ترتفع الملائكة إِلَى ربنا عَزَّ وَجَلَّ، ما الذي في صحفنا، صلوات نغفل عنها، ونحن في أثنائها قد لا ندري كم صلينا، وربما جاءت من هاهنا كلمة، ومن هاهنا نظرة، ومن هاهنا شبهة أوشك، فدمرت وأهلكت ما يظن الإِنسَان أنه جمعه من حسنات نتيجة هذه الصلوات، فمن الذي يسلم إلا من عصمه الله تَعَالَى وسلمه.